ابنا : ومن خلال هجمات الصهاينة على مناوئيهم السياسيين؛ قد يعتقد المرء أن الصهاينة يقفون ضد هتلر وضد المحرقة؛ ولكن تاريخ تراخي الصهاينة عن الكفاح وتعاملاتهم مع النازيين؛ يجعل من استخدامهم للمحرقة كسلاح سياسي نوعا من السخرية.
فبعد عدة أشهر من وصول هتلر للسلطة؛ بعثت له المنظمة الصهيونية الألمانية الرائدة مذكرة طويلة تعرض عليه التعاون الرسمي مع النازيين، وجاء في جزء من هذه المذكرة المقززة:
"على ضوء تأسيس الدولة الجديدة التي أسست مبدأ العرق، نود أن نجعل مجتمعنا متناسبا في الهيكل الإجمالي، حيث أنه بالنسبة لنا أيضا، في المجال الملقى على عاتقنا، هو النشاط المثمر من أجل ان يصبح الوطن ممكنا...
ولتحقيق أهدافها العملية؛ تأمل الصهيونية أن تكون قادرة على كسب التعاون حتى من حكومة معادية لليهود في الأساس؛ حيث أنه في التعامل مع المسألة اليهودية لا يوجد دور للعواطف؛ ولكن يوجد مشكلة حقيقة وحلها يهم جميع الشعوب؛ وفي الوقت الراهن، الشعب الألماني بشكل خاص".
في ذلك الوقت؛ كان التعاون يعني أن تقوم المنظمات الصهيونية الرائدة بالعمل على تقويض المقاطعة العالمية الواسعة ضد الألمان للاحتجاج على المعاداة النازية للسامية. وعوضا عن ذلك، عملت المنظمة الصهيونية في الوصول لـ"اتفاق نقل" يتم بموجبه إرسال أموال من اليهود الألمان إلى فلسطين لتمويل واردات لداخل ألمانيا. وفي الوقت نفسه؛ قام النازيون بإغلاق ومنع نشاط جميع المنظمات الاشتراكية ومنظمات المقاومة اليهودية، كما قامت باعتقال قادتها؛ ولكن النازيين سمحوا للصهاينة بالعمل، وقد اعترف قائد صهيوني أمريكي بهذا الحرج: "لقد كان هذا التمييز مؤلما للصهيونية بأن تنفرد بالمحسوبية والامتيازات من جانب خصمها الشيطاني [النازي الألماني]".
في سنوات الثلاثينيات من القرن الماضي وخلال الحرب العالمية الثانية؛ وضعت الصهيونية مصالحها في فلسطين في المقدمة، وأعطتها الألوية على النضال ضد معاداة السامية في أوروبا. وخلال بحثها عن حلفاء ضد بريطانيا، قامت مليشيات "الهاغاناه" الصهيونية بإجراء مباحثات من أجل الحصول على دعم جهاز الأمن الخاص الـ SS النازي؛ وفي أحد الاجتماعات السرية الذي عقد في حيفا عام 1937؛ أبلغ مندوب الهاغاناة "فافييل بولكس" Faviel Polkes ؛ ممثل جهاز الأمن الخاص النازي الـ ٍٍSS ؛ 8 أدولف ايخمان بأن "الدوائر القومية اليهودية تشعر بسعادة غامرة من جراء السياسة الألمانية المتشددة؛ لأن ذلك سوف يؤدي إلى ازدياد قوة السكان اليهود" ويجعلها تطغى على الفلسطينيين. ولفترة وجيزة في أواخر الثلاثينيات، سمح النازيون لـ"بولكس" بإقامة معسكرات تجنيد وتدريب للهاغاناة في داخل ألمانيا، ولمرحلة من الوقت كان الدخل الوحيد لـ"بولكس" هو "تمويل سري من الـSS". 8 ولقد أعجب ايخمان بالصهاينة؛ فلاحقا وبعد سنوات من المنفى في الأرجنتين؛ أشار إلى ذلك قائلا: "لقد رأيت ما يكفي لأكون معجبا بالطريقة التي كان المستعمرون اليهود يبنون فيها بلادهم، أعجبت بإرادتهم اليائسة للعيش، والأكثر من ذلك أنني كنت مثاليا، وفي السنوات التي تلت؛ كنت عادة أقول لليهود الذين كنت أتعامل معهم؛ لو كنت يهوديا لكنت صهيونيا متعصبا، ولا أستطيع أن أتخيل نفسي أي شيء آخر، في الواقع؛ كنت سأكون الصهيوني الأكثر تعصبا الذي يمكن تخيله". 9 وهذا هو الرجل الذي أشرف على الحل النهائي لهتلر!
وحتى في ذروة المحرقة، وفر زعماء الوكالة اليهودية وقادة الاستيطان في فلسطين قليلا من المساعدة. فقد قال بن غوريون في عام 1943: "الكارثة التي تواجه اليهود في أوروبا ليست من أعمالي بشكل مباشر"؛ حيث اعتقد الزعماء الصهاينة بأن النضال في أوروبا يحرفهم عن مهمتهم الرئيسية، وهي بناء الدولة اليهودية في فلسطين، وقد رفض رئيس لجنة الوكالة اليهودية تحويل أموال من صندوق الوكالة اليهودية من فلسطين؛ من أجل إنقاذ يهود أوروبا، حيث قال اسحق غروينبوم Yitzhak Gruenbaum: "سوف يقولون أنني معاد للسامية؛ لأنني لا أريد أن أحافظ على المنفى، ولأنني لا أملك قلبا يهوديا دافئا"؛ وذلك في اجتماع للوكالة اليهودية عام 1943، وأضاف: "دعهم يقولون ما يريدون، لن أطلب من الوكالة اليهودية أن تخصص ما مجموعه 300,000 أو 100,000 جنيه إسترليني لمساعدة يهود أوروبا، وأعتقد بأن أيا كان الذي يطلب مثل هذه الأشياء؛ فإنه يقوم بفعل معاد للصهيونية". وقد صرفت الوكالة خلال الحرب أموالا من أجل الاستحواذ على الأراضي في فلسطين أكثر بكثير مما عملت من اجل عمليات إنقاذ. 10
خلاصة
بدون المحرقة النازية، على الأرجح أن دولة إسرائيل لم تكن قد تأسست؛ حيث جند الصهاينة المهاجرين إلى دولة إسرائيل من بين آلاف الناجين من المحرقة التي دمرت مجتمعاتهم في أوروبا؛ وربما أكثر أهمية، هو أن المحرقة وفرت تبريرا مقنعا لوجود دولة يهودية، فقد جادل الصهاينة بأن المحرقة برهنت على أن غير اليهود معادين للسامية بطبيعتهم؛ وبالتالي؛ فإن اليهود الذين يعيشون في مجتمعات غريبة واجهوا خطر الإبادة. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية؛ وافق معظم اليهود على الصهيونية. وما هو أكثر من ذلك، فإن قيام النازيين بالتصفية الجسدية للتيارات السياسية البديلة في أوساط اليهود قد زاد من الدعم للصهيونية، فقد أصبحت الصهيونية هي اللاعب الوحيد داخل المجتمعات اليهودية، وذلك بعد أن قام النازيون ومن خلال مساومات عن طيب خاطر مع الزعماء الصهاينة في الثلاثينات والأربعينات؛ قاموا بالتأكد من قتل كل شيوعي، اشتراكي أو مناضل في المقاومة اليهودية استطاعت أيديهم أن تصل إليه.
للتاريخ الملوث للصهيونية وعلاقتها بمعاداة السامية مضامين مهمة في الكفاح من التحرير والحقوق الفلسطينية؛ حيث ينبغي فضح المظهر المخادع الذي تقوم الحركة الصهيونية من خلاله بالمساواة بين مصالحها الخاصة ومصير الشعب اليهودي. لقد تخلت الصهيونية عن الكفاح من اجل إنهاء معاداة السامية، وحولت أفكارها الخاصة بالعنصرية والإيديولوجيات إلى نظام شبيه بالفصل العنصري، مثل إقامة "دولة يهودية" في فلسطين التاريخية. في مقابل ذلك، تضع حركة التحرر الفلسطينية نفسها في تاريخ الكفاح ضد الامبريالية والعنصرية، بما يشمل اللاسامية، في الوقت الذي تقاتل فيه من اجل دولة ديمقراطية-علمانية.
........................................
كريستوفر سيمبسون، "ضربة للخلف"، ص 253. Christopher Simpson, Blowback (Collier Books, New York, 1988), p.253
......
انتهى/114